
شكلت الجزائر منذ استقلالها رقما صعبا في المعادلة الدولية، ليس فقط من خلال مواقفها العلنية في دعم قضايا التحرر والسيادة الوطنية، بل أيضا عبر تحركاتها الدبلوماسية غير المعلنة التي مكنتها من لعب أدوار محورية في تسوية نزاعات معقدة، وإدارة وساطات حساسة والمساهمة في هندسة تفاهمات دولية لم تحظَ بالانتشار الإعلامي الذي تستحقه، إذ جمعت هذه الدبلوماسية بين الواقعية السياسية والالتزام بالمبادئ، أهلت الجزائر لأن تكون طرفا لا غنى عنه في ملفات متعددة، بدء من النزاعات الإقليمية في إفريقيا والشرق الأوسط، وصولا إلى إعادة تشكيل توازنات القوى داخل المنظمات الدولية.
ظلت الدبلوماسية الجزائرية بما تمتلكه من تاريخ حافل بالمواقف المبدئية والتحركات الاستراتيجية أحد أبرز الفاعلين في السياسة الدولية سواء من خلال أدوارها المعلنة أو عبر تحركاتها الهادئة التي لم تحظَ بالانتشار الإعلامي الكافي، ومن بين المحطات التي جسدت هذا الدور البارز الوساطة الجزائرية في الحرب الإيرانية – العراقية، حيث لعبت الجزائر بقيادة الرئيس هواري بومدين دورا محوريا في التوصل إلى اتفاقية الجزائر عام 1975 التي وضعت حدا للخلاف الحدودي بين البلدين خاصة فيما يتعلق بشط العرب ورغم أن الاتفاق لم يصمد طويلا بسبب اندلاع الحرب، إلا أن الجزائر استمرت في محاولات الوساطة ونجحت لاحقا في التوصل إلى اتفاق إنهاء أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران عام 1981، وهو حدث دولي بالغ الأهمية قلما يُنسب الفضل فيه للجزائر
لم تقتصر الدبلوماسية الجزائرية على العمل الرسمي فحسب، بل امتدت إلى دعم حركات التحرر في إفريقيا وأمريكا اللاتينية حيث لم تكتف الجزائر بتقديم الدعم السياسي لهذه الحركات، بل وفرت لها دعما ماديا ولوجستيا وتدريبيا ومن بين أبرز المستفيدين من هذا الدعم حركة مانديلا (المؤتمر الوطني الإفريقي)، والجبهة الشعبية لتحرير موزمبيق، وثوار أنغولا، إلى جانب بعض الحركات اليسارية في أمريكا اللاتينية، مثل الساندينيستا في نيكاراغوا، وقد ظل هذا الدعم غير المعلن يشكل أحد العوامل التي عززت مكانة الجزائر كعاصمة للثوار.
وعلى صعيد القضية الفلسطينية لعبت الجزائر دورا خفيا في توحيد الفصائل الفلسطينية، حيث استضافت اجتماعات سرية بين قيادات منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الأخرى، مما ساهم في بناء أرضية مشتركة لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وكانت المحطة الأبرز في هذا المسار إعلان قيام الدولة الفلسطينية عام 1988 حيث اختارت منظمة التحرير الجزائر كمكان لإعلان الاستقلال بالنظر إلى موقفها الثابت من القضية الفلسطينية ودورها الريادي في دعمها
أما في الساحة الآسيوية، فقد حاولت الجزائر أن تلعب دورا في إحلال السلام في الفيتنام خلال الفترة من 1965 إلى 1972، حيث كانت من بين الدول القليلة التي حافظت على علاقات طيبة مع كل من الولايات المتحدة والفيتناميين، وقد اقترح الرئيس الجزائري أحمد بن بلة وساطة بين الفيتناميين والأمريكيين، إلا أن تعنت واشنطن حال دون نجاح هذه الجهود ورغم ذلك ساهمت هذه الوساطة في فتح قنوات تواصل غير مباشرة بين الطرفين.
وعلى مستوى القارة الهندية حاولت الجزائر التوسط سرا بين الهند وباكستان بشأن إقليم كشمير في الثمانينيات مستغلة علاقاتها المتوازنة مع البلدين، غير أن هذه الجهود لم تحظَ بالنجاح بسبب تعقيد الصراع وعدم استعداد الأطراف لتقديم تنازلات كبيرة ومع ذلك بقيت الجزائر فاعلا دبلوماسيا مؤثرا في قضايا آسيا السياسية.
في المحافل الدولية، كانت الجزائر من أوائل الدول التي اقترحت إصلاح مجلس الأمن الدولي ليكون أكثر تمثيلا للدول النامية وفي خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 دعا الرئيس الزعيم هواري بومدين إلى نظام اقتصادي عالمي جديد يحقق العدالة في توزيع الثروات، وهو خطاب أحدث صدى كبير في دول الجنوب، لكنه اصطدم بمعارضة القوى الكبرى التي رفضت المساس بهيمنة النظام المالي والاقتصادي القائم.
إفريقيا سعت الجزائر إلى تعزيز الوحدة القارية من خلال طرح مشروع الطريق العابر للصحراء في السبعينيات، والذي يربطها بالنيجر ومالي ونيجيريا، بهدف تعزيز التكامل الاقتصادي بين شمال وجنوب الصحراء الكبرى، ورغم العقبات التي حالت دون اكتمال المشروع في وقته، إلا أنه ظل ركيزة استراتيجية في الرؤية الجزائرية للتعاون الإفريقي.
عربيا كانت الجزائر من أوائل الدول التي دعت إلى حل عربي للأزمة اللبنانية، حيث لعبت دورا هادئا لكنه مؤثر في تقريب وجهات النظر بين الفصائل اللبنانية المختلفة خلال الحرب الأهلية، وكانت أحد الداعمين الرئيسيين لاتفاق الطائف عام 1989، حيث عملت على تنسيق الجهود مع السعودية ودول أخرى لضمان نجاح الاتفاق وإعادة الاستقرار إلى لبنان.
وفي ليبيا، بعد سقوط نظام القذافي عام 2011 لعبت الجزائر دورا متوازنا رافضة أي تدخل عسكري أجنبي، وركزت جهودها على الوساطة بين مختلف الأطراف الليبية، وقدمت دعما كبيرا لاتفاق الصخيرات عام 2015، الذي رعته الأمم المتحدة، حيث ساهمت في تقريب وجهات النظر بين الفرقاء السياسيين رغم الضغوط الإقليمية والدولية التي حاولت إقصاء الجزائر من المشهد الليبي
أما في إفريقيا الجنوبية، فقد كانت الجزائر أحد الفاعلين الرئيسيين في دعم نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، ولم يقتصر دعمها على المستوى السياسي، بل امتد إلى التدريب العسكري والدعم اللوجستي، كما لعبت دورا سريا في فتح قنوات اتصال بين مانديلا ونظام بريتوريا العنصري، وهو ما ساعد لاحقا في تفكيك نظام الفصل العنصري، وقد اعترف مانديلا شخصيا بالدور الجزائري في دعم النضال ضد التمييز العنصري.
وفي إطار مكافحة الإرهاب، لعبت الجزائر دورا خفيا في حل أزمة الرهائن الفرنسيين في مالي بين عامي 2014 و2020، حيث تمكنت من التفاوض مع الخاطفين والإفراج عن بعض الرهائن دون دفع فدية، وهو ما أزعج بعض القوى الدولية التي كانت تسعى إلى تدخل عسكري مباشر في المنطقة، إلا أن الجزائر كما هو معهود فضلت الاعتماد على القنوات الدبلوماسية السرية لحل الأزمة.
اقتصاديا كانت الجزائر من الدول الفاعلة في مبادرة الحزام والطريق الصينية، حيث قادت جهودا داخل الاتحاد الإفريقي لجعل الاستثمارات الصينية في القارة أكثر شفافية وعدالة، وهو ما أدى إلى تعديل بعض بنود الاتفاقيات الصينية في إفريقيا، لضمان حماية أكبر لمصالح الدول الإفريقية.
وفي قطاع الطاقة سعت الجزائر إلى إنشاء تحالف دولي للغاز على غرار “أوبك النفطية”، وعملت على تعزيز التنسيق بين الدول المصدرة للغاز، خاصة في ظل الضغوط الأوروبية الساعية إلى خفض أسعار الغاز، وقد ظلت الجزائر فاعلا رئيسيا في منظمة الدول المصدرة للغاز (GECF)، حيث طالبت بجعلها أكثر تأثيرا على السوق العالمية.
وفي السنوات الأخيرة، لعبت الجزائر دورا غير معلن في تهدئة التوترات بين إيران والسعودية، حيث قامت في 2016 و2019 بنقل رسائل غير معلنة بين مسؤولين إيرانيين وسعوديين، مما ساعد لاحقا في تمهيد الطريق أمام التقارب الذي رعته الصين عام 2023، رغم أن الدور الجزائري لم يتم تسليط الضوء عليه إعلاميا.
رغم أن الدبلوماسية الجزائرية معروفة تاريخيا بمواقفها الصلبة ودعمها لقضايا التحرر، إلا أن هناك العديد من الأدوار الخفية التي لم تحظ بالتغطية الكافية، سواء في الوساطات السرية أو بناء الجسور بين الدول المتخاصمة، أو الدفاع عن مصالح الدول النامية في المحافل الدولية، وهو ما يعكس قدرة وقوة الجزائر على التأثير الهادئ بعيدا عن الضجيج الإعلامي.