ثقافةرأي حر

الكاتب الجزائري احمد دلباني بوعلام** في ذكرى وفاة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش

محمود درويش عدميا سقوط سَرديَّة التاريخ / الخلاصُ بالفن

 

في ذكرى غياب محمود درويش في مثل هذا اليوم (09 آب / أوت) من سنة 2008

شذراتٌ من كتابي “موت التاريخ” الذي تناولتُ فيه منحى العدمية في أعماله الأخيرة

 

     « قلنا إنَّ موتَ التاريخ بدأ بالتسلل إلى قصيدة الشاعر الثوريِّ في صورة وعي حاد بموت التعالي، وسفور وجه القوة بوصفها ما يحكمُ العالمَ في غياب الآلهة. كان الشاعرُ يستصرخ العالمَ في قلب حطام بيروت المحاصرة، وكان يلجأ متعبا إلى القلب الإنسانيِّ ليعثرَ فيه على القوة الضرورية لإنقاذ المعنى والوجهة من همجية اللحظة. كانت بيروت تكثيفا مشهديا لمصير العالم المعاصر وهو يخلعُ عنه بهاءَ التطلع الأخلاقي إلى العدالة تحت السماء الفارغة. كانت بيروت تجسيداً لفشل الحداثة التي ألقت بنفسها في جحيم العزلة، بعيدا عن آلهة لم يعُد بوسعها – وسط الدمار – أن تخرج كالعنقاء من الرماد. غاب المنقذ والمخلص. هكذا يفيق محمود درويش في ملحمته الباذخة “مديح الظل العالي” على خواء التاريخ من العلو وإسرافه في كتابة سردية التيه الأبدية في طبعتها الفلسطينية. يحيط البحرُ بوجهة الإنسان التائه من كل جانب ولا مُجيرَ من ريح المأساة العتيقة. لكنَّ الشاعرَ الثوري المنتفض ضد قدر تصنعه آلهة ماكرة، يعتصم بما في الروح من صلابة أخيرة، ويعلن شرعةَ كونيةِ الإنسان ومركزيته من أجل صنع كون إنسانيِّ الوجه، تندحر فيه يدُ القرصان التاريخي وتنطمسُ فيه معالم المعابد التي سكنها الذئب المقدس. هكذا يصبح الإنسان مسألة المسائل وسؤال المرحلة وخالق الطرق إلى البدايات الواعدة:

حرية التكوين أنت

وخالق الطرقات أنت

وأنت عكس المرحله.

فاذهب فقيرا كالصلاة

وحافيا كالنهر في درب الحصى

ومؤجلا كقرنفله.

لا، لست آدم كي أقول خرجت من بيروت أو عمان أو

يافا، وأنت المسأله

فاذهب إليك، فأنت أوسع من بلاد الناس، أوسع من فضاء

المقصله

مستسلما لصواب قلبك

تخلع المدن الكبيرة والسماء المسدله

وتمد أرضا تحت راحتك الصغيرة،

خيمة

أو فكرة

أو سنبله “. (مديح الظل العالي)

لقد ظل الإنسانُ، بالتالي، في ” مديح الظل العالي ” مرجعا للقيم ومركزاً للكون يواجه صمتَ العالم وجنون التاريخ. كان الشاعر متشبثا بحفنة الروح التي تقاوم مهازل السياسة والفراغ الذي خلَّفه انسحابُ الآلهة؛ وظل في مجموعته التالية ” ورد أقل ” يتبع ” مجرى النشيد ” رغم حدسه العميق بأنَّ هنالك ليلا ” أشد سوادا ” كما يُعبِّر. أما في قصيدته المدهشة ” الهدهد ” فنلاحظ اختفاءَ تيمة المقاومة في شكلها السائد لتحل محلها تيمة السفر. إنها قصيدة / نشيدٌ عظيم يسردُ حرقة البحث الأبديِّ عن أرض المستقر في لا نهائية الزمن. إنها قصيدة صوفية المنحى لا تعِدُ بأكثر من تلاشي الذات في ضوء اللانهاية وفي عذابات الرحلة التي لا تنتهي. الهدهدُ هو الدليل إلى الماء في صحراء العالم، وهو الخبير في قراءة رسائل الآتي المحجوب. يبدو تعبُ محمود درويش هنا واضحا: تعبه من تاريخ لا يجيءُ ولا يحقق وعودَه، ومن سفر مرهق يجسِّده شعبه المُشرَّد في المنافي بحثا عن أمومة مع التراب وعن بيت يضيء حلكة الأيام. لكنَّ جواب الهدهد / الدليل كان واضحا، فهو لا يعِدُ بأكثر من التوغل في الطرق التي تدق على باب الأسرار الموصدة أبدا؛ وهو لا يرى أية وسيلةٍ أخرى تنقذ الإنسان من متاهة التاريخ المتعثر سوى الطيران بعيداً والاحتراق بشمس العالم بحثا عن وحدة تجعل الإنسان كونيا، وتنهي زمن أسئلته الوجودية الحارقة. ” إن الجواب هو الطريق ولا طريق سوى التلاشي في الضباب ” يقول الهدهد / الدليل على لسان الشاعر. يجسِّدُ هذا الأمر حيرة الشاعر أمام مصير القضية التي وقعت في اختبار المرحلة وعانت من سؤال الإمكان وسؤال الوسيلة وسؤال الهدف والغاية. لم يعد الطريق واضحا؛ ونستطيع أن نلاحظ أن نزعة الشاعر الصوفية المنحى وذات الدلالة، هنا، تمثل انكفاءً أمام التاريخ الذي لم يعُد يوفر إلا رؤية ضبابية للمسافر.

القويُّ لم يكتب التاريخ فحسب وإنما صنعه أيضا. التاريخ صنيعُ القوة والأقوياء. هذه هي الحقيقة التي يصفعنا بها الواقع الفعلي كلما تأملنا وضعنا. فلماذا البحث، بالتالي، عن تاريخ آخر مفترض، يربض في جحيم التاريخ وشرنقته كدودةٍ تنتظر صنعَ أجنحتها لتطرح عنها الشرنقة، وتحلق عاليا في سماوات عابقةٍ برائحة الإنسان؟ لماذا نصر على تلمس آثار العناية العلوية في مسيرة البشر عبر الزمن؟ لماذا نرفض فضيلة التحديق في شمس اللحظة السوداء؟ العنف هو السيد و” السلاح هو المؤرخ ” كما انتهى إلى ذلك محمود درويش مؤخرا. هذه هي الحقيقة. لقد توقف الشاعرُ عند هذا الأمر مليا، منذ كتب قصيدته الشهيرة ” خطبة ” الهندي الأحمر” – ما قبل الأخيرة – أمام الرجل الأبيض ” عام 1992، في الذكرى المئوية الخامسة لاكتشاف أمريكا من قِبل البحَّار ( القرصان؟) كولومبس. الهنديُّ الأحمر فلسطينيٌّ قبل الأوان، لم يعرف التاريخ إلا في صورة إبادةٍ واقتلاع ثقافيٍّ ورمزي، وفي صورة زواج قسري بالمُقدَّس الذي حمله القرصانُ الأبيض من أجل الهيمنة على الأرض. لقد أطل التاريخ على الهنديِّ الأحمر بآلة القوة والسيطرة التي أنتجتها حداثةٌ صاعدة زاوجت جيِّداً بين المعرفة والقوة وصنعت، بذلك، أساطيرَ تفوقها وسرديات “عبء الرجل الأبيض” الذي أثقل العالمَ بأعباء الاستعمار ووحشيته. لقد ولد التاريخ المخاتل المخادع مع تنامي نزعات المركزية الثقافية الأوروبية في العصر الحديث. أصبح فيضَ قوة ورغبة في محو المختلف والهيمنة عليه لا غير. يلاحظ محمود درويش في هذه القصيدة، بحسِّه الشعريِّ العالي، انحرافات التاريخ التي جعلته رواية بائسة تسردُ انتصارَ القوة وتجسِّدُ سلطة الواحد الذي يمحو التعدُّدَ والاختلاف. إذ لم تكن إطلالة التاريخ الحديث، بهذا المعنى، مناسبة سعيدة للقاء الثقافات أو ضوءاً يجمع أطراف الأرض من أجل السَّهر أمام الرسائل التي يلقيها زبدُ الكون المتناثر

—————

الخلاص بالفن. هذا ما خلص إليه الشاعرُ وهو يكتب جداريته. لقد تقمَّص – أخيراًدورَ جلجامش وأنكيدو في رحلة البحث عن عشبة الخلود التي عثر عليها في الفن. الفن إكسيرُ الخلود وولادة صلبة للحياة التي تنشد أبداً مقاومة العبثية والزوال. الفن هو الحياة الإنسانية وقد أترعت كأسها بشهوة الحضور القاسي وظمأ الكينونة اللاهب إلى الامتلاء بوجيب الكون.

يقول في “جدارية“:

هزمتك يا موتُ الفنونُ جميعها.

هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد

الرافدين. مسلة المصريِّ، مقبرة الفراعنة،

النقوشُ على حجارة معبدٍ هزمتكَ

وانتصرتْ، وأفلتَ من كمائنك

الخلودُ

فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريدُ

يشيرُ هذا الأمرُ إلى وعي جديد بالموت عند محمود درويش. لقد أصبح الموتُ – بمعنى ما – شيئا يهدِّدُ أبَّهة الحياة وجدارتها بوصفها تمزقا وتراجيديا تسردُ غنائية العلو المرة. أصبح الموتُ هو ما يواجهه الإنسان بحفر اسمه على جدران الزمن بعد أن كشف عن وجهه العبثيِّ وخلع عنه أقنعة الملحمية المضمحلة. يكتشف درويش هذا الأمر، هو الذي كان غائبا ومطموسا في غنائيات المقاومة الجماعية، عندما اكتشف الموتَ الفرديَّ على سرير المرض تحت مبضع الجراح. هنا يصبح وعيه أكثر حدة بمصيره الفرديِّ وبفداحة الشعور بالفردانية الأصيلة التي لن ينتشله منها شيء. لقد انتهى زمنُ السقوط في الجماعيِّ الذي ظل يتفننُ في جعل الموت عُرسا شعبيا. فمن المعروف أنَّ درويش كان منشداً باسم المقاوم وباسم العصافير التي تموت في الجليل “؛ وكان امتداداً للتراب الذي ينسف ” دبابة الفاتحين”. كان يرى الشهداءَ يسهرون على حراسة الذات الكنعانية الخالدة، منتصبين قلاعا ضوئية منيعة. لقد كان الموت، بمعنى ما، مجداً وعلواً وتراثا يزيد في رصيد المناعة الحضارية للذات الجماعية. أما الآن، فالموت هو أقل بكثير من أن يكون ينبوعا لشعرية الثقافة الثورية أو لاحتفاليات الذاكرة. لم يعد محمود درويش – بمعنى آخر – يرى أو يشاهد موت الآخرين؛ ولم يعد يؤسس لغيابهم بوصفه تاريخا يذكر بالهوية الحضارية غير القابلة للطمس، وإنما أصبح ” يموت “. هذا هو الموتُ الفردي. إنه الموت/ الحدث الخالي من كل غنائية.

جرحٌ طفيفٌ في ذراع الحاضر العبثيِّ

والتاريخ يسخرُ من ضحاياهُ

ومن أبطاله

يُلقي عليهم نظرة و يمرُّ … “. (جدارية)

————–

التاريخ، بالتالي، هو سردية القوة. هذه نظرة معاصرة جداً. نظرة ما بعد حداثية متخلصة تماما من أية إشارةٍ إلى حكايات الحداثة التأسيسية التي جعلت من المعنى عتقا للإمكان التاريخي. ظل الاعتقادُ السائد أنَّ زيتونة المستقبل توجد بالقوة في بذرتها. لكن من يستطيع أن يصدق، اليوم، أنَّ انحرافات إرادة القوة الهوجاء التي أدمت العالم المعاصر تضمرُ منطقا داخليا أو هدفا أو مشروعَ مسار نحو الخروج من نفق الظلام الطويل؟ لقد ماتت الحداثة، بهذا المعنى، أيضا. الحداثة مفهومة على أنها عطلة الآلهة وميلاد التاريخ كما لاحظ هيدغر. لذا، يمكننا أن نتصور الفكر المعاصر يقول لكل الباحثين عن قوة المعنى: إننا لا نجد إلا معنى القوة. لقد انتصر نيتشه على ماركس.

التاريخ هو سردية القوة العمياء. إنه نثرٌ يوشح وجه العالم باللامعقول وغياب الهدف. لم يعد سردية شعرية أو مدونة نقرأ فيها عيد انتصار الحياة الصعب. لم يعد الزمن ملحميا بصورة كافية، فكيف نكتبه شعرا؟ هذا ما قد يأسفُ له كل شاعر نظير درويش – نشأ في ظل الفكر الثوري مفهوما على أنه وعدٌ بالعثور على مفاتيح الخلاص من تعثر التاريخ. هذا ما يجعلنا نعتقد أنَّ الشاعر صحا، بعُنفٍ، على خواء المرحلة عندما خلعت عنها تميمة التاريخ التي كانت تُبقيها بمنأى عن جنون اللاجدوى.

إنَّ السفرَ – أي السفر المضجر في باص التاريخ هنا – لم يعد توغلا في المجهول. إنه ممارسة لعبة فقدت وهجها ولم تعد توفر متعة الشعور بالامتلاء أو القدرة على الوعد بالجديد. يُشيرُ شعر محمود درويش العدمي، هنا، إلى غياب المجهول بوصفه بُعداً مُؤسِّسا للحداثة. في الأصل لا حداثة دون سفر: سفر العقل والروح في آفاق المعنى البكر. لا حداثة دون مغامرة في الانسلاخ من أبوية المعروف المُستنفَد لطلب المجهول. أما الآن فوعودُ التاريخ أصبحت حكاية قديمة. ليس ثمة تجاوز جذريٌّ ولا اختراق لجدران صمت العالم. هكذا قالت المرحلة للحداثة التي أسست للعالم بوصفه مجهولا نسافر فيه وإليه. يرتبط السفرُ في الوعي الحداثي – كما هو معروفبتجاوز النظرة التقليدية التي ظلت تعتقل العالمَ والوجود في الجاهز المعرفي، لينفتحَ على بعد السر وليجعل من الآتي انكشافا لضوء المعنى عبر التاريخ المتحرر، شيئا فشيئا، من القوى العمياء التي حكمته. لكنَّ السفر، اليوم، في وعي محمود درويش يبدو متماثل المحطات ولا يعِدُ بالجديد الذي قد يتجاوز، جذريا، عقمَ آلة الزمن السيزيفي. كما أن الرحلة يلفعها الضجرُ والشعور بالغثيان. إنها كوميديا السأم بامتياز. ” لا شيء يعجبني ” يقول الجميع. فلماذا الإصرار على طلب الآتي؟

يقول السائق العصبي: ها نحن

اقتربنا من محطتنا الأخيرة، فاستعدوا

للنزول … /

فيصرخون: نريد ما بعد المحطة،

فانطلق !

أما أنا فأقول: أنزلني هنا. أنا

مثلهم لا شيء يعجبني، ولكني تعبت

من السفر “. (لا تعتذر عمَّا فعلت)

                        هامش /            

                               النص من كتاب للمؤلف / موت التاريخ الصادر في دمشق / دار التكوين

 

**

الكاتب // 

    احمد دلباني بوعلام كاتب وشاعر جزائري ، يشتغل على مفاصل كثيرة في الابداع والفكر وبرز المبدع منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي ، وتعمق الكاتب في السنوات الأخيرة في المجالات الفكرية والفلسفية والأدبية تجاوزت مؤلفاته العشر في هذه المجالات إضافة الى اسهاماته المميزة في العديد من الملتقيات الأدبية والفكرية للعلم الاديب أستاذ مادة الفلسفة

اظهر المزيد

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى
آخر الأخبار
تبسة/سكان تبسة يترقبون الافراج عن الحصة السكنية الثانية قسنطينة / الفرقة المتنقلة للشرطة القضائية بسيدي مبروك تتصدى للجريمة حفظا للأمن تبسة/ الوالي يشدد على ضرورة وضع إستراتيجية للتكفل بانشغالات المواطنين   عين تيموشنت / سونلغاز التوزيع ت تربط 937 مستثمرة فلاحية بالطاقة الكهربائية . فوز المنتخب الجزائري المدرسي وتأهله إلى بطولة إفريقيا‎ سكيكدة/ مناوشات كلامية تنتهي بجريمة قتل وسط المدينة. الجزائر (32) غينيا (23). المنتخب الوطني يحقق أول فوز في المباريات الترتيبية. بشار/وزير الداخلية والجماعات المحلية والتهيئة العمرانية يشرف على تنصيب الوالي الجديد المدير العام للحماية المدنية في زيارة تفقدية مهمة لولاية أولاد جلال وهران / خرجة ميدانية للجنة السكن والتعمير لمزرعة باهي عمر السانية رقم 02 المدير العام لبنك التنمية المحلية من قسنطينة:" فتح رأس مال البنك يؤسس لشراكة اقتصادية هادفة و متطورة... عين تيموشنت / جامعة بلحاج بوشعيب تحيي الذكرى الثالثة عشرة لوفاة المجاهد "بلحاج بوشعيب ". رئيس الجمهورية يستدعي الهيئة الناخبة لتجديد نصف اعضاء مجلس الامة غرداية/تحجز 3554 وحدة من أجهزة حساسة ميلة / إنطلاق عملية إجراء الفحوصات الطبية للحجاج على مستوى العيادات المتعددة الخدمات